رفع أكاي كأسه، وتمعّن في محتواه لحظة، ثم قال بنبرة متهكمة لكن متعبة:
— "أتدرون ما الغريب؟
رئيس منظمة بأكملها، يجلس الآن في غرفة رجلين يعتقد كل منهما أنه الأذكى في المكان...
لكن الغرابة ليست هنا، بل في أنني اضطررت أن ألغِي اجتماعًا مع وزير الاقتصاد الأوروبي لأجل هذه الزيارة."
ابتسم موريس:
— "أوه، نحن محظوظان إذن.
هل هو ذلك الاجتماع عن مشروع “الجبهة الشرقية”؟ سمعتُ أنه يستهلك ميزانية ثلاث دول دفعة واحدة."
رد أكاي وهو يميل إلى الوراء قليلًا، كأن ثقلاً كبيرًا جاثم على كتفيه:
— "أكثر من ذلك... المشروع يعيد تشكيل توازن النفوذ في أوروبا.
تصوّر أنني أستيقظ كل صباح على تقارير بحجم الطاولة التي أمامك،
اجتماعات بالفيديو، تقارير استخباراتية، ميزانيات... ثم تحقيقات داخلية، ثم مطالبات من الوزراء، ثم زيارات فجائية، ثم ثم ثم..."
قاطع تاي بابتسامة ساخرة:
— "أليس هذا ما تسعى إليه كل حياتك؟ القيادة، السيطرة، أن يكون كل شيء تحت نظرك؟"
ضحك أكاي، ضحكة ثقيلة، مرّة:
— "بل كنت أبحث عن السلطة... لا عن الانهيار تحت وزنها.
هل تعلم أنني لم أذُق نومًا هادئًا منذ خمسة أشهر؟
كلما وضعت رأسي على الوسادة، يأتيني تقرير جديد:
تمرد في فرع أمريكا اللاتينية،
تسريب من قسم آسيا الوسطى،
اختفاء عميل في المغرب،
ومحاولة انقلاب في السويد."
نظر إليه موريس متعجبًا:
— "ألم تفوّض أيًّا من هذه الأمور؟"
رد أكاي بمرارة:
— "جربت، فغدروا.
في هذه المنظمة، التفويض يُترجم إلى خيانة،
والثقة تُصبح نقطة ضعف."
ثم أضاف وهو يُمرّر يده على جبينه:
— "أحيانًا... أشعر أن المنظمة كلها تقف على عصبٍ واحد في دماغي. إن انقطع، تداعت كل أعمدتها."
تاي قال بهدوء، وهو يسكب الشاي:
— "لكنّك لا تظهر ذلك أمامهم، أليس كذلك؟"
أجاب أكاي وهو ينظر إلى البخار المتصاعد من الكأس:
— "لا، لا أُظهر شيئًا.
الرئيس لا يُسمح له بالتعب،
الرئيس لا يُسمح له بالشك،
الرئيس يجب أن يكون ظلًا، لا يهتزّ مهما عصفت رياح العالم."
ثم أكمل بمرارة:
— "أتدرون؟
الوحيد الذي لا يملك حرية في هذه المنظمة... هو أنا."
ساد الصمت لثوانٍ.
موريس رمق أكاي بنظرة طويلة وقال:
— "ربما لهذا السبب... لا زلتَ في القمة.
لكن إن أردتَ نصيحتي، فاختر يومًا واحدًا فقط... تكون فيه مجرد إنسان."
ضحك أكاي، ضحكة نادرة هذه المرّة، لا سخرية فيها بل شيء أقرب إلى الحنين:
— "يوما ما... يوما ما، حين لا يكون ثمن الاستراحة هو موت ألف رجل."
— "وكأن مهامي اليومية لا تكفيني... أضف إليهم هذه المأساة الجديدة: اختبار المبتدئين."
نظر إليه تاي مبتسمًا، وقال وهو يرتشف من كأسه:
— "ألا يوجد مشرفون؟ لماذا تنشغل أنت شخصيًا بهذا المستوى؟"
أكاي ابتسم ابتسامة قصيرة، وقال بصوت منخفض:
— "لأن الاختبار هذا العام ليس ككل عام.
لدينا مشرفون نعم — بلاك داون، راغنا، وبعض معلمي ...
لكن خلف الستار؟
أنا من كتب سيناريو المسارات، حددت المواقع، درست تكتيكات المتقدمين، رتّبت المفاجآت، راقبت نقاط الدخول والخروج،
وأرسلت فريقًا لاختبار التحمل النفسي والعقلي لبعض المختارين."
رفع موريس حاجبه، وسأل:
— "لماذا كل هذا؟ أهو مجرد اختبار لمبتدئين؟"
أكاي أطرق للحظة، ثم قال ببطء:
— "أنت لا تعلم ما يحدث يا موريس...
نسبة اختراق المنظمة هذا العام مرعبة.
سبعون بالمئة من المتقدمين هم إمّا جواسيس، إمّا أدوات، إمّا وقود لشيء أكبر.
أحدهم... فقط أحدهم، قد من خدم أودجين."
ساد الصمت.
أكاي تابع بنبرة متوترة:
— "أنا لا أختبرهم فقط، بل أبحث عن شيء فيهم.
شيء... يشبهنا... أو يشبه عدونا."
تاي نظر إلى موريس وقال ضاحكًا:
— "يبدو أن اختبارنا سيكون أكثر إمتاعًا مما ظننا، أليس كذلك؟"
موريس لم يرد، فقط شبك ذراعيه وهمس:
— "وكم من هؤلاء سيخرج حيًا؟"
أكاي رفع عينيه نحو الضوء المتدلّي فوق الطاولة، وهمس:
— "من يخرج... لن يعود كما دخل."
أخرج أكاي زفرة ثقيلة، ثم مدّ يده نحو الكأس أمامه، لكن بدل أن يشرب، ظلّ يحدق في السائل الداكن كأن فيه انعكاسًا لما في صدره. أخيرًا، نطق:
— "موريس..."
رفع موريس عينيه نحوه، دون أن يجيب.
— "أنا... آسف."
صمت.
قالها أكاي بنبرة نادرة، نغمة رجل اعتاد أن يؤمر، لا أن يعتذر.
ثم أردف وهو يضع الكأس:
— "كنت أعلم أن هذا فوق طاقتكم... أعلم أنكم لستم سوى أربعة، وأنكم بلا دعمٍ لوجيستي، ولا حتى ظهرٍ إداري يحمي تحركاتكم."
موريس لم يتحرك، لكنه قال بصوت هادئ:
— "ومع ذلك... اخترتنا."
ابتسم أكاي، وقال:
— "نعم، فعلت. لأنكم مختلفون. أنتم لا تتبعون الخطّ الكلاسيكي للمنظمة.
أنتم... خارج المألوف. وهذا ما نحتاجه مع أودجين."
ثم أمال جسده للأمام وأكمل:
— "القرار اتُّخذ في مجلس الأمن الداخلي. بعض الوزراء أرادوا فرقة أوقا، لكني رفضت. قلت لهم:
فرقة أوقا يجب أن تبقى في الظل... حتى تحين اللحظة المناسبة."
نظر إلى موريس وقال ببطء:
— "وعدٌ مني، عندما نعرف مواقعهم بدقة...
سأعطي الأمر مباشرةً لأوقا.
أما أنتم؟
فمهمتكم ليست قتلهم... بل مطاردتهم، زعزعتهم، كشف قواعدهم...
أن تضيئوا لي دروبهم."
تاي ضحك بخفّة وقال:
— "بمعنى آخر... نحن الفئران التي تدخل المصيدة لتكشف مكان السُم."
أكاي أومأ بصمت، ثم نظر إلى موريس مجددًا:
— "أعلم أنك لا تحب أن تُستعمل... لكن هذه ليست خيانة.
أنا معك، وسأكون ظهرك.
فقط... لا تفشل."
موريس ابتسم ابتسامة باهتة، ثم قال:
— "لا أعدك بالنجاح الكامل...
لكن أعدك بشيء آخر."
أكاي: "ما هو؟"
موريس: "حين يسقط أول فرد من أودجين بين يدي... سأجعلهم ينسون اسمهم."
فجأة رن هاتف أكاي بلحنٍ خاص لم يكن يصدر إلا في أوقات نادرة.
نظر إلى الشاشة، وعيناه تغيّرتا قليلًا، كمن يعرف تمامًا من المتصل.
وقف بهدوء وقال:
— "عذرًا، سأخرج للحظة."
خرج من الغرفة، وأغلق الباب خلفه.
وقف في الرواق الطويل، بين جدارٍ صامت وسقفٍ خافت الضوء، ثم رد على الاتصال دون أن يتكلم.
جاءه الصوت على الفور:
— "لقد تأخرت في الرد، كالعادة..."
صوتها كان رقيقًا، ناعمًا، فيه نغمة دفءٍ غريب، وكأنها كانت تبتسم في الجهة الأخرى.
أكاي بصوت بارد، بلا نبرة:
— " اهلا آني ،كنت منشغلًا."
— "مع من؟"
— "موريس، وتاي. خطة جديدة، أنتِ لا تهمكِ التفاصيل."
ضحكة قصيرة خفيفة جاءت من الطرف الآخر، ثم قالت:
— "أنا فقط أريد أن أسمعك. لا أحتاج التفاصيل... يكفيني أن تقول لي إنك بخير."
صمت.
ظلّ أكاي ينظر نحو الظل الممتد على الجدار، وكأن الجدران تهمّه أكثر من الكلمات.
— "أكاي... لماذا تفعل هذا بي؟"
— "ماذا أفعل؟"
— "تجعلني ألاحقك دائمًا، بينما أنت تبتعد. كلما اقتربتُ، تبني جدارًا آخر."
أكاي تنهد بخفّة، ثم قال:
— "الحياة ليست سهلة. وأنتِ تعلمين أين أقف... من أنا."
— "ومع ذلك... أنا هنا."
لحظة طويلة مرّت.
ثم قال أكاي، بصوتٍ منخفض:
— "إياكِ أن تنتظري منّي شيئًا.
الوقت... لا يرحم أحدًا."
ثم أنهى المكالمة دون وداع.
تنهد مرة أخرى، وأعاد الهاتف إلى جيبه.
عاد إلى الغرفة، كأن شيئًا لم يحدث.
فتح الباب وقال بنبرة خفيفة:
— "أين كنّا؟"