التقت سيوفنا بعنف، الشرر يتطاير مع كل اصطدام، وصوت الحديد على الحديد يملأ الأجواء. كانت ضرباته دقيقة وباردة، لا تحمل ترددًا ولا غضبًا، فقط هدوء مميت يثقل على صدري مع كل هجمة.

تفاديت ضربة خاطفة أتت من جانبه الأيسر، ورددت بهجوم منخفض استهدف ساقه، لكنه انحرف بخطوة سريعة وكأن جسده لا يحمل وزنًا. حاولت أن أقرأ مشاعره عبر هاكي التنبؤ، لكن ما واجهته كان جدارًا من البرود، برودًا يخفي وراءه شيئًا لا أستطيع لمسه.

صرخت في داخلي: انه ليس مجرد عبد انه الة قتال

أدرت جسدي بسرعة، ولوّحت بسيفي من الأعلى لأسفل. اعترض الضربة بسيفه بسهولة، ثم دفعني للخلف بقوة جعلت كتفي المصاب يكاد ينفصل عن مكانه. سعلت دمًا، لكني تماسكت.

ابتسم بخفة وقال بصوت كالصقيع:

“أنت بطيء.”

ضغطت أسناني، وانطلقت مجددًا. هذه المرة لم أهاجم مباشرة، بل تحركت بخطوات غير متوقعة، أغلقت المسافة بسرعة، ووجهت ضربة مفاجئة نحو جانبه. لكن سيفه كان حاضرًا قبل أن أصل، ارتد السيفان عن بعضهما، وسمعت أصداء المعدن تعلن استمرار التحدي.

حاولت استغلال لحظة دفاعه، التففت خلفه وحاولت الطعن، لكنه انخفض فجأة وأدار جسده في حركة خاطفة، وكاد أن يبقر بطني لولا أن تراجعت في اللحظة الأخيرة. شعرت بحد سيفه يخدش جلدي ويمر كنسمة جليد على لحمي.

ضرباته كانت تزداد سرعة، وأنا بالكاد أصدها. كلما تعبت، كان يزداد قوة وكأن البرودة التي تحيط به تغذي جسده.

صرخت وأنا أهاجم بكل قوتي، محاولًا كسر هذا الجدار البارد. سيوفنا اصطدمت مرة أخرى، لكن هذه المرة ثبتّ قدميّ بكل قوتي، ودفعته للخلف خطوة واحدة فقط، لكنها كانت كافية لألتقط أنفاسي.

ابتسم ببرود وهو يمسح الدم عن حافة سيفه وقال:

“أخيرًا أظهرت شيئًا يستحق أن يُقاتل.”

رفعت سيفي مجددًا، وقلت بصوتٍ متقطع من التعب لكن مليء بالإصرار:

“لن أسقط هنا… ليس بعد.”

عاد الصمت للحلبة، ثم اندفع كلانا في اللحظة نفسها، لتلتقي السيوف مرة أخرى في صراع حياة أو موت.

اندفعنا مجددًا، أجسادنا تتحرك بسرعة لا تراها العين. كل ضربة كانت تقرب أحدنا من النهاية. السيوف تصرخ، والعرق والدماء تتطاير بيننا.

لوّح بسيفه بهجوم جانبي خاطف لم أتوقعه. رفعت سيفي لأصده، لكن الحركة كانت خدعة. في اللحظة التالية انحرف السيف بزاوية مميتة، ومرّ بجانب وجهي، تاركًا خلفه شعاعًا أحمر.

شعرت بحرارة حادة تمزق عيني اليسرى.

صرخت بألمٍ اخترق السماء، وسقطت على ركبتي، يدي تضغط على عيني، والدماء تتساقط من بين أصابعي.

صرخت من الألم، لكن الألم لم يكن في الجرح فقط، بل في الإحساس بالعجز.

عين عينيييي!!

الألم جعل كل شيء من حولي مظلمًا من الجهة اليسرى، نصف العالم قد اختفى فجأة.

وقفت بصعوبة، جسدي يرتجف، والدماء تنهمر من وجهي. نظرت إليه بعيني الوحيدة المتبقية، رأيت فيه هدوءًا غريبًا، كأنه لم يفعل شيئًا يُذكر.

ابتسم ابتسامة باردة وقال:

“سقطت بالفعل.”

صرخت من أعماقي، صرخة جمعت الألم والغضب واليأس.

“لـــن… أسقط!!!”

رفعت سيفي بيد مرتجفة، جسدي نصف ميت، لكن إرادتي كانت تحترق كالنار. رغم الظلام الذي يغطي نصف رؤيتي، اندفعت من جديد، أقاتل بعين واحدة، أقاتل بأسناني وروحي.

كل ضربة منه كانت تقطع أنفاسي، وكل خطوة مني كانت نزيفًا آخر. لكني لم أتوقف.

ان مت هنا سينتهي كل ما قاتلت من اجله

أمسكت السيف بكل قوتي، واستعديت للهجوم الأخير.

اندفعت بكل ما تبقى في جسدي من قوة، صرخت، وضربت بكل ما أملك، لكن ضربتي اصطدمت بسيفه الذي كان ثابتًا كالجبل. لحظة، لحظة واحدة كانت كافية ليكسر كل شيء. صرير الحديد اخترق أذني، وانكسر سيفي إلى نصفين، تطايرت شظاياه في الهواء.

تراجعت خطوة إلى الوراء، أنفاسي متقطعة. سمعت صوته البارد يخترق السكون:

“لماذا أنت ضعيف؟”

تجمدت في مكاني، ارتعش قلبي من كلماته. رأيت في عينيه تلك البرودة المعتادة، لكن خلفها، كان هناك شيء آخر… الفضول.

“لماذا… أنت ضعيف؟” كررها وهو يتقدم خطوة نحوي.

ارتجفت شفتاي، “لم… أفهم.”

ابتسم بسخرية وقال بصوت منخفض يكاد يكون همسًا، لكنه اخترق روحي:

“كل هذه المشاعر للبقاء، كل هذا الغضب، كل هذه الوعود التي تصرخ في قلبك… وما زلت ضعيفًا.”

تسمرت في مكاني، شعرت بالدماء تتجمد في عروقي. يرى

المشاعر كما اراها

هذا ليس مجرد عبد، هذا وحش يرى كل شيء في أعماقي.

همست بخوف، “ما هو… اسمك؟”

رفع عينيه الصفراء، وكأنهما تشعّان من داخل الظلام، وقال بهدوء جعل قلبي يتوقف:

“اسمي هو… فيرنر.”

اهتز كياني. فيرنر؟ الاسم ارتطم بذاكرتي كالصاعقة. “فـيـرنـر؟” تلعثمت، مذهولًا.

ابتسم لأول مرة، لكنها كانت ابتسامة حزينة. جلس على جثة أحد العبيد القريبة، وغرس سيفه في الأرض بجانبه.

“أرى أنك قابلت أحدًا من الفيرنر.”

لم أفهم. نظرت إليه بتساؤل، لكنه أكمل دون أن ينتظر ردي.

“فيرنر… هو اسم منتشر هنا. اسم يُعطى لكل عبد يولد في الماريجوا، الأرض المقدسة… أرض الآلهة.” نطق الكلمة الأخيرة بكره دفين.

“إنه إهانة… إهانة للأسطورة القديمة، فيرنر الذئب الذي أكل الإله.”

ارتعشت مشاعري، شعرت بغضب يتصاعد من داخلي.

واصل حديثه بصوت مملوء بالألم والفخر في الوقت ذاته:

“كل عبد يولد هنا يُدعى فيرنر، لكي نتذكر أن حتى من يملك روح الذئب سيُسحق تحت أقدامهم. لكن… كل من يحمل هذا الاسم، تربطه أخوة خفية، أخوة في الألم والدم. أتدري كم من إخوتي ماتوا بسبب هذا الاسم؟”

شعرت بمشاعره، خليط من الفخر والاسى، فخر باسم يكرهه الجميع، وأسى على من فقدهم.

وفجأة، من داخلي، انفجرت قوة مكبوتة. شعرت بها تتدفق في عروقي، طاقة تحمل عزيمة مرعبة، عزيمة جعلت الأرض ترتجف من حولي. كان الهاكي الملكي، خرج رغماً عني، حاولت التحكم فيه لكن كان كالسيل الجارف.

نظر إلي فيرنر، وعيناه تتسعان بدهشة نادرة. للحظة، لم يكن ذلك البرود فيه. للحظة، بدا وكأنه رأى شيئًا يستحق أن يؤمن به.

ابتسم ابتسامة هادئة، كمن وجد أخيرًا الإجابة التي كان يبحث عنها.

نهض، سحب سيفه من الأرض، ثم أمسك بيدي المرتجفة، وجعلني أمسك قبضته. شعرت بحرارة غريبة من خلاله، وكأنه ينقل شيئًا إليّ.

قال بصوت ثابت، كأنه ينطق بحكم أبدي:

“عش يا جين… عش كذئب يأكل الإله.”

وبحركة سريعة، غرس السيف في قلبه، والدماء تفجرت من صدره. عينيه الصفراء لم ترمش، كانت تنظر إليّ بفخر غريب حتى آخر لحظة.

“عش… من أجلنا.” كانت كلماته الأخيرة قبل أن يسقط جسده على الأرض بلا حياة.

وقفت متجمدًا، والدموع تختلط بالدماء على وجهي. لم أصدق ما حدث.

“فيرنر

” همست، وأنا أشعر أن جزءًا من روحه قد انتقل إليّ في تلك اللحظة.

شعرت بارتعاش جسدي وهو يختزن آخر ما تبقى من مشاعره، مشاعر الحرية التي لم يعرفها طوال حياته، والسعادة التي شعر بها وهو يلحق بإخوانه في مكانٍ لا تصل إليه قيود العبيد.

“اللعنه على النظام ،اللعنه على التنانين السماويه ،اللعنه على الحكام ”

كان صراخي في داخلي يدوّي كبركان،

“اللعنه على من يحكمون العالم ”

رفعت رأسي نحو السماء التي لطالما اعتلتها نظراتهم المتعجرفة وصرخت بصوت ممزق:

“تشاهدون العالم من فوق؟ أقسم بفيرنر أنكم لن تروه مرة أخرى. سأدمر حاضركم ومستقبلكم، وسأمسح وجودكم من هذا العالم.”

احتضنت جثة فيرنر بين ذراعيّ رغم الألم الذي يفترس كتفي الأيسر، حملته كأخ، كقسم حيّ. مشيت متتبعًا ذاكرة الطريق الذي أُبيدت فيه الغابة حتى وصلت إلى حيث كانت جثة فيرنر الفتاة الصغيرة.

ركعت بصمت أمام المكان، سحبت سيفها من قلبها برفق، وكأنني أعتذر عن كل الألم الذي مرت به. حفرت بيدي حفرة تكفي لاحتضان جسده الصغير، دفنته ببطء، غطيت جسده بالتراب، وكأن كل حفنة كانت ثقيلة بقدر الذكريات التي حملتها.

وقفت أخيرًا، ودمعة ساخنة انحدرت من عيني اليمنى.

أما اليسرى، فقد بقيت مغلقة، مغطاة بالدماء، كأنها خُتمت لتبقى ميثاقًا للوعد الذي قطعته.

شعرت بآخر مشاعره وهي تغادر المكان، كانت شكرًا صافيًا، دفئًا هادئًا كأن العالم في لحظة صفاء.

في تلك اللحظة، خرجت كل طاقتي، وكأن جسدي قد أعلن نهايته.

انهرت على الأرض، بلا قوة، بلا وعي، لكن قلبي ظل ينبض بوعد واحد لا ينكسر…

وعد اسمه فيرنر .

2025/08/02 · 15 مشاهدة · 1181 كلمة
m6
نادي الروايات - 2025