بعد قتل القناصة، انتظرت انتهاء الآخرين من قتالهم.
لم يتبقَّ سوى فتى اللوجيا من عائلة الدونكوهوتي، لوجياه كانت غريبة، سائل لزج يتحرك كأنه حي.
والسياف الأشقر، مستخدم هاكي التصلب، يقف شامخًا رغم الجروح على جسده.
وفتى يمتلك فاكهة زون الذئب، وحش بعيون حمراء، قتل اثنين من العبيد بوحشية.
تبقى أربعة.
توجه فتى الزون نحوي، نظرت إلى عينيه، رأيت فيهما الجوع للقتل.
سألته بهدوء:
“ما اسمك؟”
أجاب الذئب الذي أمامي بصوت أجش:
“فورست.”
ابتسمت ببرود وقلت:
“أنا جين.”
تركت الغمد يسقط على الأرض، صوته ارتطم في داخلي قبل أن يسمعه أحد.
أمسكت السيف بقوة كأن حياتي كلها تعتمد عليه، لأن هذه كانت الحقيقة.
شعرت بشعور بارد، شعور الموت يحيط بي، يذكرني أن أي تردد يعني نهايتي.
قفزت إلى اليسار، تفاديت أول هجوم له وهو ينقض على المكان الذي كنت فيه، مخالبه تغرس في التراب.
استمرت هجماته، واحدة تلو الأخرى، كان سريعًا وقويًا، لكني استطعت أن أتجاوزه كل مرة مستخدمًا حدسي وتدريبي.
لوحت بسيفي محاولًا اختراق جلده الصلب، لكن الضربة ارتدت وكأنها اصطدمت بصخرة.
عضلاته محمية بفاكهته، والقوة وحدها لا تكفي.
“لم
…
تفاديت ضربة أخرى بينما عقلي يبحث بجنون عن طريقة لتعويض ضعفي الجسدي.
تحركت بسرعة، لكن مخالبه هذه المرة لامستني، مزقت جلدي وتركت جرحًا طويلًا على بطني، جرحًا سطحيًا لكنه ينزف بغزارة.
انكشف جزء من صدري، وظهرت العلامة التي أكرهها بكل أعماقي… علامة العبد.
مجرد رؤيتها أشعل في داخلي نارًا سوداء، شعور العار كأنني عارٍ أمام العالم كله.
أحسست بالغضب يتفجر داخلي.
نظرت إليه، كانت نظرتي مختلفة، نظرة حيوان جريح على وشك الانقضاض.
اندفعت نحوه كالمجنون، لا عقل ولا خوف، فقط سيفي وغضبي.
حاول أن يلكمني بمخالبه الحادة، تفاديت لكمته في اللحظة الأخيرة، ولوحت بسيفي بكل قوتي المشتعلة.
شعرت بالمعدن يخترق شيئًا طريًا.
صرخة حادة مزقت الهواء، تراجعت للخلف ورأيته يضع يده على عينه اليمنى.
الدماء تتدفق منها بلا توقف، لقد فقد بصره في تلك العين إلى الأبد.
صرخ من الألم، صوت الذئب الجريح يهز الغابة، لكنه تماسك.
ركلني بقوة قبل أن أتمكن من إنهاء ما بدأته، دفعني بعيدًا لأسقط على الأرض بقوة.
أخذت نفسًا عميقًا، الألم يمزق بطني لكن الغضب يغطي عليه.
أكملت اندفاعي نحوه، كل خطوة كانت ترافقها أنفاس ثقيلة وصوت دقات قلبي يتردد في أذني.
تفاديت هجماته المتتابعة، مخالبه تلامس الهواء فقط. جرحته مرة أخرى على كتفه، تركت السيف يغرق قليلًا ثم سحبته بسرعة.
أردته أن يغضب أكثر، أردته أن يفقد صوابه حتى أتمكن من قراءته بالكامل.
تذكرت كلمات سامرو، تلك الكلمات التي همس بها في إحدى الليالي المظلمة:
“في هاكي التنبؤ، هناك جزء لا يعرفه حتى من وصلوا إلى رؤية المستقبل. جزء مجنون يجعله أقوى هاكي على الإطلاق… رؤية المشاعر .”
وقتها لم أفهم ما يقصده، لكن الآن، وأنا أرى الذئب فورست ينزف أمامي وعيناه تشتعلان بالجنون، أدركت المعنى.
رؤية المشاعر ليست مجرد أن تشعر بما في قلب عدوك، بل أن تعيش مشاعره وتوجهها كما تريد.
ركزت كل حواسي عليه، أغمضت عيني للحظة، وبدأت أسمع ما وراء صرخاته.
خوف… غضب… كراهية… مزيج قاتل من الغرائز.
ابتسمت رغم الألم في بطني.
“هكذا… اغضب أكثر.”
كنت أتمتم بصوت خافت وكأني أخاطب روحه.
كلما غضب أكثر، كلما أصبحت حركاته أكثر فوضوية.
كلما زادت كراهيته لي، زاد تحكمي به.
سامرو كان محقًا، التحكم بالمشاعر في القتال خطأ قاتل إن لم تتقنه.
لكنني الآن لا أريد فقط قراءتها… بل أريد كسرها.
أصبحتُ متحكمًا في هذا القتال شيئًا فشيئًا، وكأن العالم من حولي قد صمت إلا من صوت أنفاسي وأنفاس خصمي.
تقدّم فورست، ذلك الفتى الذي اتّخذ شكل الذئب، بعينين حمراوين ونَفَسٍ متسارع يكاد يمزق صدره.
كانت خطواته ثقيلة لكنها سريعة، كل خطوة تهتز الأرض تحتها، كل قفزة تحمل نية القتل الخالص.
تفاديت ضربة مخالبه الأولى بمهارة، وابتسمت رغم الألم الذي يسري في جسدي.
ازداد غضبه مع كل تفادٍ، كأن ابتسامتي وقودٌ لنيرانه.
كنت أشعر بكل موجة من مشاعره، الغضب يتصاعد كبركان، ثم يتبعها خوف دفين يكاد يختبئ خلف هيئته المتوحشة.
“إنه خائف مني.” همست في داخلي.
نسيت للحظة أنه ليس قاتلًا محترفًا ولا وحشًا حقيقيًا، بل طفلٌ في الثانية عشرة، جُرِّد من طفولته، وأُلقِي في جحيم لا يرحم.
أحسست بشيء مختلف، إحساس يندمج مع هاكي التنبؤ الذي دربني عليه سامرو، شيء أعمق من مجرد توقع الحركات.
لقد رأيت مشاعره، قرأتها كما تُقرأ الكلمات على الورق.
رؤيتي لغضبه، لخوفه، للحزن العميق في داخله، جعلتني أتحكم بالمعركة بالكامل.
كنت أعرف متى سيقفز، متى سيوجه مخالبه، وحتى اللحظة التي يتردد فيها قلبه قبل الهجوم.
انتظرت اللحظة الحاسمة، تلك اللحظة التي يصل فيها الغضب إلى قمته.
صرخ فورست بصوتٍ وحشي وانقض عليّ بسرعة البرق.
هذه المرة، لم أتراجع، بل اندفعت للأمام، قفزت إلى الأعلى بكل قوتي.
في لحظة التقاء نظراتنا، شعرت أنه يرى نهايته.
استخدمت الجاذبية التي تدربت عليها، جعلت جسدي يندفع نحو قلبه مباشرة، وسيفي أمامي كسهمٍ قاتل.
اخترق السيف صدره، وغرسته بكل ما تبقى لي من قوة.
في اللحظة ذاتها شعرت بألمٍ حاد في كتفي الأيسر، مخالبه غرست في جسدي وخلعت كتفي، لكني تجاهلت الألم، تجاهلته كأنه غير موجود.
لم يكن هناك شيء أهم من أن أنهي هذه المعركة.
سقط جسده فوقي، ثقله حبس أنفاسي للحظة.
في تلك الثواني الأخيرة، شعرت بمشاعره تتلاشى؛ الغضب تبخر، والخوف انكمش حتى اختفى.
وبدلاً منهما، شعرت بحزنٍ عميق، حزنٍ لم أفهمه حتى غمر قلبي.
ثم جاءت تلك الشفقة شفقة لم تكن على نفسه، بل عليّ.
“غريب. لماذا تشفق عليّ؟”
كأن صوته يهمس في رأسي، كأن روحه تحدثني.
لقد شعر بالشفقة لأنني سأظل حيًا لأحمل لعنة العبودية، بينما هو تحرر بالموت.
كانت تلك المشاعر أقسى من الألم، أقسى من المعركة كلها.
دفعته عني ببطء، وعاد إلى هيئته البشرية.
بني الشعر، نحيف الجسد، لا يتجاوز المتر والنصف طولًا.
وجهه الهادئ الآن لم يعكس الوحش الذي كان يقاتلني قبل لحظات.
كان مجرد طفل لم ير عامه الثالث عشر، طفل أُجبر على أن يصبح وحشًا.
مددت يدي، أغمضت عينيه، وقلبي مثقل بما جرى.
نظرت إلى السماء التي بدأت تشتعل بألوان الغروب، وقلت بصوتٍ خافت يكاد يتلاشى مع الريح:
“نم لقد انتهى كابوسك.”
في تلك اللحظة، شعرت بأن موت فورست لم يكن مجرد نهاية معركة،
التفتّ لأرى باقي الحلبة، ورأيت السياف الأشقر يجلس فوق جثة مستخدم اللوجيا، سيفه مغروس في الأرض بجانبه، وعيناه مثبتتان عليّ وكأنهما تخترقان صدري.
وقف ببطء، بلا أي انفعال، وكأن القتل بالنسبة له لم يكن سوى تنفّسٍ طبيعي.
سرت خطواتي نحوه بحذر، وقلت بصوتٍ منخفض لكنه مليء بالريبة:
“لماذا لم تنتهز فرصتك لقتلي؟”
رفع رأسه قليلًا، ونظر إليّ ببرود لا يوصف، ثم رد بنبرة باردة تقطع الهواء:
“ولماذا سأحتاج إلى فرصة لقتلك؟”
كلماته أيقظت شيئًا داخلي، شعرت بالغضب يتصاعد في صدري، لكني كبحت نفسي.
أخذت نفسًا عميقًا وهدأت، ثم سألته بهدوءٍ مصطنع:
“ما هو اسمك؟”
صمت، رفع عينيه الصفراء الحادة، وقال ببطءٍ قاتل:
“اسمي اختفى قبل أن أكتسبه. لا يوجد لي اسم الآن… فقط عبد.”
في تلك اللحظة، اجتاحتني مشاعره.
شعرت ببرودٍ قارس يحيط به، برود استسلام لشخص فقد كل شيء.
لكن وسط هذا الجليد، كانت هناك نار ضعيفة، نار لم تحترق لتدفئه بل لتحرق من يقف أمامه.
ارتجف الجو من حولنا وكأن الريح الباردة خرجت من قلبه.
رفعت سيفي بثبات، وقلت له بصوتٍ مبحوح لكنه قوي:
“ما كان اسمك قبل أن تفقده؟”
ابتسم ابتسامة باهتة، ثم قال:
“إن أردت أن تعرفه… فعليك أن تهزمني أولًا.”
أخرج سيفه من الأرض، صوته وهو ينسحب كان كصفير الموت.
ازدادت برودة الجو، لكني رأيت الشرارة المشتعلة في داخله، نارًا غريبة، نارًا باردة.
تقدّمت خطوة للأمام، ووجهت سيفي نحوه، وأنا أتمسك بكل ما تبقى لي من قوة.
قال ببرود قاتل:
“لن أستخدم هاكي التصلب… حتى يكون هذا القتال عادلًا.”
ابتسمت رغم الألم الذي يمزق جسدي، ورددت بصوتٍ مليء بالإصرار:
“اسمي… هو كروساو جين.”
أومأ برأسه ببطء، وكأنما يعترف بوجودي، ثم ثبت قدميه استعدادًا للمعركة.
في تلك اللحظة، ساد صمت ثقيل، قبل أن يتحول الهواء بيننا إلى ساحة صراع لا عودة منه.