اليوم مرّ ببطء شديد.

أعمال التنظيف، حمل الأواني، مسح الأرضيات، كلها أعمال حقيرة لا تنتهي.

لكن عقلي لم يتوقف عن التفكير في كلمات لوكاس عن رتب العبيد وعن السلم الذي قد يرفعني أو يدفنني.

بينما كنت أنقل دلاء الماء الثقيلة، سمعت صوتًا طفوليًا مرحًا خلفي:

“أنت الجديد، صحيح؟”

التفت ورأيت صبيًا في نفس عمري تقريبًا، شعره غريب؛ نصفه أحمر والنصف الآخر أبيض، وعيناه لامعتان بابتسامة لم أرها من قبل بين العبيد.

ابتسم الصبي وقال وهو يمد يده:

“اسمي سامرو.”

ترددت للحظة قبل أن أمسك يده:

“جين.”

ضحك بخفة:

“جين؟ اسم جميل، لكن يبدو غريبًا هنا.”

سرت معنا أجواء خفيفة وسط الجو المكفهر. بدأنا نعمل معًا، ننظف ونرتب الأواني بينما نتحدث بصوت خافت بعيدًا عن أنظار الحراس.

سألته بحذر:

“منذ متى وأنت هنا؟”

رد وهو يمسح طاولة:

“ولدت هنا تقريبًا، مثل معظمنا. لكنني تعلمت أن أعرف من يكون من، ومن أين جاء. أنت مختلف عن الآخرين.”

تجمدت لحظة وسألته:

“ماذا تقصد؟”

اقترب مني وهمس:

“أنت تملك علامة على صدرك… ليست مجرد علامة عبد. إنها وسم خاص .”

وضعت يدي على صدري، حيث تلك العلامة الملعونة، فسألته بارتباك:

“وسم خاص؟”

نظر إليّ بعينين جادتين لأول مرة:

“هذه العلامة توضع فقط على العبيد الذين يُعتبرون ممتلكات شخصية للتنانين السماوية من عائلات النخبة. هذا يعني أن حياتك ليست لك، بل لشخص محدد منهم.”

انقبض قلبي من كلماته.

(ممتلكات شخصية… إذًا أنا لست عبدًا عاديًا؟)

تابع سامرو:

“اسمك مسجل في سجلاتهم… سمعت أحد الخدم يتحدث عنك اليوم.

اسمك الحقيقي هو كروساو دي جين .

عبد خاص تابع مباشرة لشامروك فيجرلاند.”

وقفت مذهولًا، الكلمات تثقل عليّ كأنها سلاسل جديدة على عنقي.

(كروساو دي جين… هذا هو اسمي الحقيقي؟)

ابتسم سامرو من جديد ليخفف الجو وقال:

“مهما كان اسمك أو من تكون، هنا نحن نفس الشيء… عبيد.”

ضحكت بسخرية خافتة رغم قسوة الحقيقة

الفصل الخامس: الورود الحمراء

استمرينا في العمل سويًا، أنا وسامرو، نحمل قطع القماش المبللة ونتنقل بين الزوايا لنمسح الغبار الذي لا ينتهي.

كانت الصالة الواسعة أشبه بمكان مقدس؛ أعمدة مرتفعة، أرضية لامعة، وطاولات وكراسٍ مصفوفة بعناية تجعل كل حركة محسوبة.

بينما كنت أمسح أحد الكراسي، سألت سامرو:

“متى أتيت إلى هنا؟”

رفع رأسه من على الطاولة التي كان ينظفها وقال ببساطة:

“لقد أتيت إلى هنا قبل أسبوع. ألا تتذكر؟”

تجمدت لوهلة، ثم تمتمت وأنا أخفض رأسي:

“أتذكر… لكن مع الحياة الجديدة… لا أتذكر بالضبط عدد الأيام.”

ساد الصمت بيننا للحظات، لم ينطق سامرو بكلمة، واكتفينا بمتابعة التنظيف.

أنهينا الكراسي والطاولات واحدة تلو الأخرى، حتى وصلت إلى النافذة الكبيرة المطلة على الخارج.

من هناك، رأيت حديقة واسعة مغطاة بالورود الحمراء، بلون دموي يخطف الأنفاس.

تقدمت قليلاً، عيناي عالقتان على تلك الورود الجميلة، وكأنها تدعوني.

وفجأة سمعت صوت سامرو من خلفي، صوته هذه المرة جاد وحاد:

“لا تنظر إلى الورود كثيرًا… أو ستموت.”

التفت إليه ببطء، ووقعت عيناي على عينيه مباشرة.

رأيت فيهما شيئًا لم أتوقعه… كرهًا وحقدًا دفينًا ، شعورًا قاتمًا لا يشبه ابتسامته المعتادة.

ذلك الكره لم يكن موجهًا لي، بل نحو هذا المكان… نحو التنانين السماوية… نحو كل شيء يحيط بنا.

تراجعت قليلًا عن النافذة، والهدوء الثقيل بيننا ازداد عمقًا.

ما قصة تلك الورود؟ ولماذا يحمل سامرو هذا الحقد؟

بينما كنت أفكر، سمعت وقع أقدام تقترب من الصالة، خطوات بطيئة لكنها محمّلة بسلطة رهيبة.

لم أحتج إلى النظر لأعرف من القادم… شامروك.

الصالة كانت هادئة إلا من أصواتنا الخافتة ونحن نتابع التنظيف.

كنت ما زلت أفكر في كلام سامرو عن الورود الحمراء عندما انفتحت الأبواب الكبيرة ببطء، وصوت خطوات هادئة تسلّل إلى المكان.

دخل شامروك فيرجلاند ، بخطوات باردة لا تحمل أي تردد، وكأن المكان كله ينحني له دون أن يطلب.

عيناه الزرقاوان الجليديتان مسحتا الصالة بنظرة واحدة، ثم استقرتا عليّ للحظة، جعلتني أشعر كأن الهواء تجمد في صدري.

خلفه مباشرة، كان يقف لوكاس ، العبد الأشقر الذي قابلته سابقًا، لكن هذه المرة كان يحمل سيفه ويبدو أكثر صرامة من أي وقت مضى.

توقف شامروك في منتصف الصالة، نظراته لم تتغير، وصوته خرج باردًا، سياديًا، وكأنه لا يعترف بوجود أحد:

“لوكاس… درّب هذا الطفل.”

انحنى لوكاس بخفة وأجاب:

“أمرك، سيدي شامروك.”

ثم أضاف شامروك، بنفس النبرة الخالية من المشاعر:

“جهّزه… للمصارعة.”

ارتجف قلبي عند سماع الكلمة الأخيرة.

المصارعة؟

!

أدركت فورًا أنها ليست لعبة أطفال، بل اختبار قاسٍ لا ينجو منه سوى الأقوياء.

تقدم لوكاس نحوي بخطوات ثابتة، ونظر إليّ بعينين جادتين قبل أن يقول بصوت منخفض:

“من الآن… حياتك ستتغير. استعد، جين.”

في تلك اللحظة، شعرت أن كل ما مررت به لم يكن سوى بداية بسيطة، وأن القادم… سيكون دمويًا.

نظرت إلى سامرو للحظة، فوجدته يراقب بصمت، لكن في عينيه تلك المرة لم أرَ سوى شيء واحد… توقع لما سيحدث.

الفصل الثامن: سبب الاختيار

واصل لوكاس السير بي عبر الممرات حتى وصلنا إلى فناء واسع يستخدم لتدريب العبيد على القتال.

وقف أمامي وأدار وجهه نحو السماء قليلًا، ثم قال بصوت منخفض وكأنه يشرح أمرًا بديهيًا:

“أتعلم لماذا اختارك شامروك بالتحديد؟”

تقدمت خطوة نحوه، عيني تراقب وجهه بترقب، فسحب نفسًا وأجاب:

“لأن في تقاليد حلبة التنين ، يجب أن يكون عمر المقاتلين أقل من الثانية عشرة.”

تجمدت في مكاني، شعرت ببرودة تسري في عروقي.

“ماذا؟” تمتمت بصدمة.

“هل تقول إن عمري اثنتا عشرة سنة؟”

نظر لوكاس إليّ باستغراب، حاجباه ارتفعا قليلًا وقال بحدة:

“أنت لا تعرف كم عمرك؟”

أخفضت نظري إلى الأرض، لم أستطع الإجابة، كان الصمت وحده كافيًا لفضحي.

اقترب خطوة مني وقال:

“من ما قرأته في ملفك، عمرك أحد عشر عامًا فقط. أنت أصغر بكثير من أن تدرك ما ينتظرك.”

رفعت رأسي ببطء، وعيناي مليئتان بالأسئلة، لكن لوكاس لم يتركني أتحدث، وأكمل:

“تم شراءك من مزاد للتنانين السماوية… كنت مجرد سلعة تُعرض أمامهم مثل حيوان. لا أحد يعرف قصتك من قبل المزاد، ولا أحد يهتم.”

شعرت أن الأرض تحت قدمي تهتز.

مزاد

سلعة

عبد

يباع

ويشترى

.

ضحك لوكاس بسخرية مرة وقال:

“من سوء حظك، سيدك شامروك يحب أن يستخدم عبيده في المصارعة. لذلك تم اختيارك… لأنك صغير بما يكفي ليكون قتالك ممتعًا لهم.”

صمت لوهلة، ثم ابتسم ابتسامة باردة:

“لكن… ربما يكون هذا أيضًا حظك. فكل من يدخل الحلبة إما يموت… أو يولد من جديد.”

بقيت أنظر إلى لوكاس بصمت، داخلي مليء بالغضب، بالأسئلة، وبشعور عارم بأن عليّ أن أجد طريقي… حتى لو كان محفوفًا بالموت.

وقف لوكاس أمامي، ووجهه هذه المرة كان أكثر جدية من أي وقت مضى.

خفض صوته قليلًا وكأنه يخشى أن يسمعه أحد، وقال:

“هناك أمر آخر يجب أن تعرفه، جين… في هذه المصارعة ليس فقط الخصوم الضخام هم من يقتلونك.”

تراجعت خطوة وقلت:

“ماذا تقصد؟”

رد بحدة:

“انتبه من عائلة دون كيهوتي . هم لا يختارون عبيدًا عاديين أبدًا، بل وحوشًا بشرية تم تربيتها على القتل منذ ولادتها. إذا واجهت واحدًا منهم في الحلبة… فاعتبر نفسك ميتًا.”

شعرت ببرودة تسري في جسدي، لكن لوكاس لم يتوقف، بل اقترب مني أكثر وهمس:

“وأيضًا… انتبه من العبد الذي تم اختياره من عائلتك، عائلة فيرجلاند.”

اتسعت عيناي بصدمة، استوعبت فجأة ما يعنيه كلامه.

تمتمت بصوت مبحوح:

“انتظر… هل تقصد أنه… سيكون هناك عبد آخر من فيرجلاند؟”

أومأ برأسه ببطء، وعيناه تتفحصان وجهي:

“نعم. في هذه اللعبة، كل عائلة تدخل عبدين . لكن لا تخطئ… في النهاية، لا يوجد سوى منتصر واحد.”

تجمدت، وكأن قلبًا باردًا ضرب صدري.

تمتمت دون وعي:

“منتصر واحد…”

أكد لوكاس بنبرة قاتمة:

“نعم، لا يوجد منتصر ثانٍ. الآخر… يجب أن يموت.”

شعرت بقبضة تخنق صدري. ليس فقط عليّ مواجهة عبيد عائلات أخرى، بل أيضًا شخصًا من نفس البيت الذي أملكه شامروك.

تراجع لوكاس قليلًا وأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يقول:

“سيكون لدينا شهر واحد للتدريب. شهر كامل لإعدادك قبل أن يتم رميك في حلبة التنين. إذا لم تستغل كل ثانية… فلن ترى الشمس بعدها.”

رفعت رأسي ببطء، قبضتاي مشدودتان، وعيناي تلمعان بمزيج من الخوف والإصرار.

(شهر واحد… شهر واحد فقط لأصبح قادرًا على النجاة.)

2025/08/02 · 37 مشاهدة · 1222 كلمة
m6
نادي الروايات - 2025