نظرت إلى السماء المظلمة، القمر مخفي بين الغيوم، والنجوم بالكاد تلمع.
حلّ المساء، وهدأت الغابة إلا من همسات الريح وصوت أوراق الأشجار المتساقطة.
أردت أن أنام، لكن لا وقت لدي.
واصلت المسير، قدماي تتلمسان الطريق، إلى أن بدأت الأشجار تتباعد شيئًا فشيئًا.
كنت قريبًا من منتصف الحلبة حيث تنتهي الغابة.
المتسابقون الآخرون توقفوا عن الحركة، الظلام أخافهم وجعلهم يختبئون.
أما أنا، فالظلام صديقي.
لقد تدربت على العيش فيه، وشعوري بما حولي أقوى من عيونهم.
بينما أمشي، شعرت بوجود شخص مختبئ تحت شجرة قريبة.
أنفاسه متقطعة، متسارعة، مملوءة بالخوف.
اقتربت أكثر، إنها فتاة صغيرة، عبدة مثلنا جميعًا.
جسدها كان مغطى بالدماء، جرح عميق يمزق جانبها.
جرح لو كان في أي مكان غير هذه الحلبة لربما عاش صاحبه، لكن هنا الموت ينتظر خلف كل نفس.
إلى جانبها جثة باردة، ربما كانت رفيقها الوحيد.
عيناها التقتا بعيني رغم الظلام، ارتعشت، مزيج من الخوف واليأس.
هذه ليست حياة، هذا موت بطيء في مكان صنع خصيصًا لإذلالنا.
“عبدة بلا اسم.”
تذكرت خوفي الدائم من الموت بلا اسم، من أن أُمحى كأنني لم أكن.
اسم، فقط اسم يمكن أن يمنح معنى للموت.
اقتربت منها ببطء وقلت بصوت خافت.
“ما اسمك؟”
بصوت مكسور، بالكاد مسموع، همست.
“فيرنر.”
ابتسمت بسخرية، سخرية ممزوجة بالغضب، وقلت بهدوء.
“يالسخرية القدر، اسمك اسم الذئب قاتل الإله.”
ضحكت قليلًا، ضحكة لم تحمل أي فرح.
ثم وضعت السيف على قلبها وقلت بصوت يسمعه قلبها فقط.
“أقسم باسمك فيرنر أنني سأنتقم لك، ولكل عبد قتل هنا.
سيكون اسمك اسمي، وسيكون موتك ولادتي من جديد.
موتك سيكون عهدي، وميلادي لعالم لن أكون فيه عبدًا.”
دفعت السيف في قلبها، أردت أن تموت بسرعة بلا ألم طويل ولا أمل كاذب.
ابتسمت ابتسامة هادئة، وهمست بكلمة واحدة.
“شكراً.”
جسدها سكن، والدماء تجمدت، وروحها تحررت.
رفعت رأسي نحو السماء، وشعرت بالقوة تصعد داخلي كالنار تحرق عبوديتي القديمة.
من فوق، دوى صوت ارترو في الغابة عبر الدن دن موشي.
“تبقى خمسة وعشرون.”
أغمضت عيني وقلت لنفسي.
“لن أموت هنا، لن أموت بلا معنى.
من الآن سيعرف العالم الذئب اللذي اكل الاله.”
أكملت الطريق، الغابة تبتلع خطواتي، وأصوات الليل تحيط بي من كل جانب.
رائحة الدم كانت تملأ الجو، ثقيلة لدرجة تجعل صدري يضيق مع كل نفس.
بينما كنت أتقدم، لمحت جسدًا مرميًا بين الأشجار.
اقتربت بحذر، ركعت بجانبه، وأدركت أنه فتى ضعيف البنية، بني الشعر، وجهه شاحب وقد فارق الحياة منذ وقت قصير.
يداه كانتا متيبستين على عصا غريبة.
مددت يدي، أغمضت عينيه بهدوء، همست بصوت منخفض.
“نم بسلام.”
فتشت أدواته، وجدت أشياء بسيطة لا قيمة لها، لكن العصا جذبت انتباهي.
مسكتها، ووزنها بيدي كان مختلفًا، باردًا بشكل غير طبيعي.
تأملت نهايتها، حجر غريب مندمج معها.
ابتسمت ابتسامة خفيفة، شعرت بوميض أمل في قلبي.
“كايروسكي.”
أخفيت العصا بين أغراضي، وشددت قبضتي عليها.
الآن، حتى مستخدم اللوجيا لن يكون بعيد المنال.
أكملت الطريق، شعرت بتغير في الغابة، الهواء أصبح أثقل، ورائحة الرطوبة ممزوجة برائحة الدم والرماد القديم.
وصلت إلى آخر الأشجار، لكنني لم أخرج من الغابة.
توقفت، نظرت حولي بحذر، شعرت بأن عيونًا تترصدني من بعيد.
ربما قناص، ربما شخص ينتظر لحظة غفلتي.
لا، لن أخرج هكذا.
حان وقت خطتي.
بدأت بجمع الحطب الجاف، أغصانًا متكسرة وأوراقًا ميتة، كأن الغابة نفسها تستسلم لما سيحدث.
ثم أخرجت الأقمشة التي جمعتها في طريقي، بعضها ممزق ومليء بالدماء، لكنها ستفي بالغرض.
أعددت كل شيء بهدوء، نظرت إلى السماء للحظة، كأنني أطلب الغفران.
حاولت إشعال النار، الشرارة الأولى تأخرت، لكن مع إصراري اندلع اللهيب الصغير، يلتهم الحطب ببطء حتى اشتعل.
هدفي كان بسيطًا، لكنه قاتل.
أردت أن أحرق الغابة.
أن أجعل النار تلتهمها من الجهة الأخرى، بحيث يأتي الحريق من جهتين، من المنتصف ومن الحلبة نفسها.
لهيب مزدوج سيحاصر الجميع، سيجعل النجاة مستحيلة إلا لمن يعرف طريقه.
سيقتل الكثير، وسيكون الحمل على كتفي ثقيلًا.
ساكون السبب في موت العبيد، وجوههم لن تفارقني.
عرفت حجم قراري، عرفت ثقله.
لكن، إن لم أقتلهم، سأكون أنا الميت.
ذكرت نفسي باسمي، بعهد قطعته أمام جثة فيرنر.
“يجب أن أنجو.
إن أردت الحرية، إن أردت الانتقام لكل من مات، أو سيموت، يجب أن أحيا.”
رميت اللهيب على الحطب، النار التهمته بسرعة، زحفت على الأرض مثل وحش يبتلع كل شيء في طريقه.
أصوات الأشجار تتصدع، والدخان بدأ يرتفع.
همست وأنا أنظر إلى بداية الجحيم.
“نامو في سلام.”
أضاءت النيران السماء السوداء، وبدأت الرياح تحمل الشرر بعيدًا.
وهكذا، جاء يوم الجحيم قبل ميعاده.
اشتعلت النيران، وارتفعت أعمدة الدخان إلى السماء، تلتهم الغابة بسرعة جنونية.
كنت في منتصف الحلبة، بعيدًا عن صخب التنانين السماوية، لذلك كان صراخهم يصلني خافتًا.
وفجأة، جاء صوت ارترو من الدن دن موشي، صوته بارد لكنه يحمل نشوة خفية.
“عشرون… تسعة عشر… ثمانية عشر… سبعة عشر… ستة عشر… خمسة عشر… أربعة عشر… اثنا عشر… تسعة…”
توقف العد عند التسعة، وصمت المكان لثوانٍ.
ثم انفجر ارترو ضاحكًا، ضحكة عالية، مجنونة، كأن النيران أشعلت شيئًا في داخله.
شعرت أن صوته يخترق رأسي، كأنه يستمتع بيأسنا.
قال بصوت مليء بالنشوة.
“مجنون! لقد فعل أمرًا مجنونًا! حرق الغابة ليحصل على فرصة للحياة.
العبد الذي قتل العبيد ليصبح ملك العبيد.”
كان يعلق من قلبه، يستمتع بكل تصرفاتي كأنني دمية ترفيهه المفضلة.
ثم تابع بصوت ممتع، كأن كل كلمة منه سُمّ لغيري وحياة لي.
“تبقى تسعة… من النخبة، النخبة.
يوم الجحيم بدأ قبل موعده.”
تلاشى صوته مع ضحكة طويلة، ضحكة استقرت في رأسي كندبة.
وقفت في منتصف الحلبة، أتنفس بصعوبة، أنظر إلى السماء حيث اخترقت الشمس دخان النار وبدّدت الظلام قليلًا.
لكن ما رأيته أمامي جعل دقات قلبي تتسارع.
خرج من بين الأشجار أربعة شخصيات، ومن ورائي أربعة آخرون.
كنا تسعة فقط.
عيونهم كلها تتوهج بالجنون أو بالخوف.
لكن ما شدّ انتباهي كان اثنين من بينهم، وجوههم تحمل ابتسامات عريضة، عارية من أي دروع.
تعرفت عليهم فورًا، أبناء عائلة دون كيهوتي.
مجانين يتبجحون بعدم حاجتهم لأي حماية، كأن النار والدماء لا تعني لهم شيئًا.
بينهم فتاة تمسك مسدسًا، نظراتها باردة، قناصة لا تعرف الرحمة.
وصبي آخر يقف بثقة غريبة، لا يحمل أي سلاح سوى يديه.
وعبد بشعر أشقر، يحمل سيفًا يلمع في ضوء الشمس، عيناه تشعان تصميمًا مختلفًا عن البقية.
أما البقية، ففتاة وصبي آخر، كلاهما يحمل سيوفًا.
ملامحهم حزينة، لكنها تحمل شيئًا آخر… شيئًا يشبه ما بداخلي.
عبيد، أُجبروا على هذه الحرب كما أُجبرت أنا.
نظرت إلى الجميع، قبضتي مشدودة على سيفي، وصوت في رأسي يصرخ.
“التسعة الذين بقوا… أحدنا فقط سيخرج حيًا.”
فجأة، اخترق صوت الطلقات أذني.
“بوم! بوم! بوم!”
تفاديت الطلقات بجهد، جسدي يتحرك بسرعة بفضل التدريب الذي حوّل غريزتي إلى رد فعل قاتل.
ركضت نحو الفتاة القناصة، الرصاص يخترق الهواء من حولي، شعرت بواحدة تمر بجانب خدي، ساخنة كالنار.
وصلت إليها، لوّحت بسيفي بكل قوتي، لكن قبل أن أقطعها، ركلتني بقوة في صدري.
شعرت بعظامي تتصدع، الألم اخترق ضلوعي اليمنى.
سقطت لوهلة، لكن الأدرينالين كان أقوى من الألم، جعلني أتجاهله وكأنه غير موجود.
نهضت بسرعة، أنفاسي متقطعة، نظرت إلى الجانب فرأيت المجنون من عائلة دون كيهوتي.
عيونه تلمع بجنون، وفي يده بلورات تتشكل وتتفجر بلمعة قاتلة.
فاكهة كرستال… فتى بعمر الثانية عشرة يملك قوة قادرة على تمزيقي.
يالسخرية القدر، حتى الأطفال هنا وحوش.
ابتسمت رغم النزيف من فمي وقلت بصوت متحدٍّ:
“لا يوجد لديك صبر، أليس كذلك؟”
أمسكت العصا المغلفة بالكايروسكي بيدي اليسرى، والسيف بيدي اليمنى.
جسدي يصرخ من الألم، لكن عقلي يصرخ أقوى: اقتله
.
ابتسمت ابتسامة تحمل الجنون، وقلت بصوت منخفض يسمعه وحده.
“هل تريد الموت بهذه السرعة؟”
ضحك، ضحكة مليئة بالغرور، ظن أنني انتحاري لا يملك وسيلة لقتله.
لكن غروره كان سلاحي.
لم أنتظره، لم أسمح له بخلق بلورات أخرى.
انطلقت بكل قوتي، لا أعطيه وقتًا للتفكير.
العصا الكايروسكي موجهة إلى صدره، والسيف إلى عنقه.
كان يظن أن هجومًا مباشرًا أمام مستخدم لوجيا انتحار، لكن ما في يدي لم يكن سيفًا عاديًا.
صرخت باسمي، كأن صوتي نفسه سيف يسبق ضربتي.
“كروساو دي جين!”
قبل أن يدرك ما يحدث، اخترقت العصا صدره، والكايروسكي شل قدراته تمامًا.
تجمّدت عيناه على اتساعهما، صرخ بجنون، لكن صوت البلورات المتكسرة غطى على صوته.
في اللحظة نفسها، سيفي قطع عنقه بخط واحد.
دمه تطاير، بلوراته تساقطت كأحجار مكسورة.
وقع جسده، بلا حياة، بلا قوة.
رفعت العصا والدم يسيل منها، نظرت إلى بقية العبيد، وابتسامتي لم تختفِ.
“التالي.”
نظرت يمينًا ويسارًا، كانت الفوضى تلتهم المكان.
القتال محتدم بين الجميع، والدماء تغطي الأرض.
هناك على اليمين، كان مستخدم لوجيا آخر يشتبك مع الفتى الأشقر حامل السيف.
عيونه مشتعلة بعزم لا يوصف، ويده تكسوها طبقة سوداء لامعة… هاكي التصلب.
اللعنة، هذا الصبي ليس عاديًا.
شعرت بحرارة تقترب مني فجأة، تفاديت بسرعة، والنار مرت بجانبي.
نظرت إلى مصدرها… الفتاة القناصة.
كانت قد غيرت سلاحها من المسدس إلى سلاح صغير يقذف طلقات نارية.
ركضت نحوها، رصاصاتها تتطاير في كل اتجاه، لكن خطواتي لم تتوقف.
“بوم!” تفاديت.
“بوم!” انحنيت.
“بوم!” قفزت إلى الجانب.
نظرت إليها مجددًا، ورأيت ملامحها تتغير مع كل تفادي أقوم به.
من الثقة…
إلى الحذر…
إلى القلق…
إلى الخوف الصريح.
اقتربت أكثر، كانت رصاصاتها الأخيرة تخرج بيد مرتعشة.
تفاديت مرة أخرى، هذه المرة كان الخوف قد سيطر عليها بالكامل.
عيونها اتسعت، جسدها بدأ يرتجف.
همست بصوت خافت، يكاد لا يُسمع وسط الصراخ.
“اجعله سريعًا.”
توقفت للحظة، نظرت في عينيها ورأيت الاستسلام.
أومأت برأسي دون كلمة.
رفعت سيفي بخط واحد، ومرّ على عنقها كنسيم بارد.
سقط جسدها ببطء، عيناها ما زالتا مفتوحتين، لكن الخوف الذي كان فيهما اختفى.
مسحت الدم عن سيفي ببطء، وواصلت التقدم.