كان الغضب يغلي في عروق «نيجي» كبركانٍ على وشك الانفجار.
شدّ الوتر بقوة حتى انطلقت عضلات ذراعيه كحبال فولاذية، وأطلق سهمين دفعةً واحدة.
اندفع السهمان يخترقان الهواء بصوت صفيرٍ حادّ، يشقّ السكون كصرخة موت،
لكن «أريس» تحرّك بخفةٍ كأن الريح تحمل جسده، فمال بجسده خطوة إلى اليمين، ثم التفّ بسيفه ليشقّ الهواء،
فانحرف السهمان في لحظة، كأنهما انكسرا على جدارٍ خفي من المهارة.
لم يتوقف «نيجي»،
العَرَق يتصبب من صدغيه، أنفاسه لاهثة، أنامله ترتجف من التوتر والدم يضخّ بعنف في أذنيه.
سحب سهمين آخرين بسرعة مذهلة، أطلقهما بعزمٍ يائس،
لكن «أريس» لم يرمش حتى،
ضربة واحدة من سيفه اللامع —
صوتها كالبرق وهو يمزّق السماء —
وشُطر السهمان إلى نصفين، تطايرت شظاياهما كشرارات فضية أمام وجهه.
قال «أريس» بسخريةٍ ماكرة، وصوته يقطر ثقةً وغرورًا: "هيا أيها اللعين! أطلق سهامك أسرع قليلًا... لا تجعلني أنام من الملل!"
انعكست أشعة الشمس على حدّ سيفه كوميضٍ ذهبي، بينما الغبار المتطاير حوله بدا كأنه يرقص على أنفاسه.
قفز «نيجي» عاليًا، الهواء يصفع وجهه، أطلق سهمًا يلمع كوميض برق،
لكن «أريس» أمال جسده بمرونةٍ أشبه بموجةٍ تتفادى الصخور.
من خلفه، انطلقت سهمان آخران كوحشين من لهبٍ يطاردان فريسته.
المشهد من بعيد كان كعاصفة من الظلال والوميض،
صوت السهام يخترق الأذن كالصفير الحديدي، والغبار يلفّ الساحة مثل دخان معركةٍ قديمة.
بينما كان «نيجي» يهاجم بجنونٍ يائس،
كان «أريس» يتحرّك بخفة راقص حربٍ متمرّس،
قدماه تلامسان الأرض دون صوت،
وسيفه يرسم خطوطًا مضيئة في الهواء مع كل التفافٍ ورشقة.
الهواء نفسه بدا كأنه ينحني أمامه.
صرخ «نيجي» وهو يلهث، عروقه بارزة،
"ألا تعرف شيئًا غير الركض هنا وهناك مثل فأر جبان؟!"
لم يرد «أريس».
بل اختفى كطيفٍ غارق في العاصفة، وظهر خلفه فجأة.
الهواء اهتزّ،
وركلة صاعقة اخترقت ظهر «نيجي» كضربة مطرقةٍ على الفولاذ.
ارتفع جسده للحظة، قبل أن يُسحق أرضًا،
صوت ارتطامه كان كهدير طبلٍ ضخمٍ في قلب الساحة، تبعته موجة غبارٍ خانقة.
تناثرت الحصى، وارتفع التراب ليلفّ المشهد بضبابٍ كثيف.
ومن بين الغبار، خرج صوت «أريس» البارد، يتسلل كخنجرٍ إلى الآذان: "أوه، أيها اللعين... لماذا ترفع مؤخرتك نحوي؟ لا تقل لي أنك... تحب ذلك؟"
انفجرت الساحة ضحكًا.
ضحك الطلاب بصوتٍ متردد بين الصدمة والإعجاب،
وبعض الفتيات غطين أفواههن بارتباكٍ بينما احمرّت وجوههن.
أما «أريس»، فوقف وسط الغبار المنتشر حوله مثل هالةٍ من الهيبة والاستهزاء،
شعره يتطاير كاللهب، وعيناه تعكسان بريقًا غامضًا كجمرةٍ في ليلٍ معتم.
نهض «نيجي» ببطء، جسده يرتعش من الألم،
يداه متسختان بالتراب،
دمٌ رقيق تسرب من فمه،
عيناه تشتعلان بغضبٍ لا يوصف.
عضّ على شفته حتى سال الدم منها، وصاح بصوتٍ متقطع: "اللعنة عليك أيها ذو الفم القذر!"
اقترب منه «أريس» بخطواتٍ بطيئة،
كل خطوة تصدر صوت احتكاك الحذاء بالأرض كأنها طرقات موتٍ تقترب.
قال ببرودٍ يقطع الهواء كسكين: "إذن ليس لديك تلك العادة؟ هذا جيد... وإلا كنت قتلتك، فأنا لا أحب الدراسة مع شواذ."
صوته انخفض فجأة، صار باردًا، ميتًا...
كأن كل نغمة فيه تحمل نية القتل.
نظره اخترق «نيجي» حتى العظم،
عيناه لا تحملان أي حياة، فقط ظلام هادئ مخيف.
ارتجف «نيجي» لا إراديًا، شعر ببرودةٍ تزحف من رقبته حتى أطراف أصابعه،
حلقه جفّ، وابتلع ريقه بصعوبة.
مدّ يده بسرعة نحو جعبته...
لكن أصابعه لم تلمس سوى الفراغ.
توقف، قلبه يخفق بقوةٍ تكاد تكسر صدره.
رفع نظره فرأى «أريس» واقفًا أمامه،
الغبار يدور حول قدميه كضبابٍ من الجحيم،
والابتسامة الباردة على وجهه تشبه ابتسامة شيطانٍ ملّ من اللعبة.
اقترب منه ببطء حتى صار صوته على بعد أنفاس: "هل انتهت سهامك... أيها الأحمق؟"
في لحظةٍ لم يرها أحد، اختفى «أريس» من أمامه.
ثم سُمِع صوت ارتطامٍ ثقيل.
يده قبضت على وجه «نيجي» كقيدٍ من الفولاذ،
رفع جسده عاليًا في الهواء،
ثم هوى به نحو الأرض بقوةٍ كافية لتحطيم الصخور.
الارتجاج جعل الأرض تئنّ، والغبار غطّى الساحة بأكملها.
الهواء امتلأ برائحة التراب المحترق والعرق والدم.
عندما تلاشى الغبار،
كان «نيجي» ملقى على الأرض بلا حراك، وجهه مدفون في التراب، وجسده ساكن كدميةٍ محطمة.
خيم الصمت.
حتى تنفس الطلاب توقف،
والرهبة علقت في الهواء كستارٍ من الجليد.
ثم جاء صوت الأستاذة «مي»، هادئًا لكنه حادّ كالسيف:
"هذا... بسبب عدم تحكمه في مشاعره. وهذا ما استغله «أريس» ليحقق فوزه."
قال «إديسون» بامتعاض وهو يقطب حاجبيه: "بل استخدم حيلة قذرة للفوز، لا أكثر!"
لكن «مي» لم تجبه فورًا.
نظرت إليهم جميعًا، نظرة تحمل فهمًا عميقًا لما لا يرونه.
ثم همست كأنها تحدث نفسها:
"أن تهزم خصمك نفسيًا... هي أول خطوة نحو النصر الحقيقي.
لكن هؤلاء... لا يدركون بعد خطورة أسلوب «أريس»."
نظر «أريس» إلى الجميع وابتسم، وكانت ابتسامته هادئة، لكنها تحمل بين طياتها معنى واضحًا لا يحتاج إلى تفسير —
من التالي ليصعد ويتعرض للضرب؟
ساد الصمت للحظة، قبل أن تتلاقى نظرات التلاميذ المتوترة، وتتصاعد أنفاسهم الثقيلة في الهواء.
حتى لو كانوا يسخرون منه بسبب طريقة قتاله، إلا أنهم لا يريدون الصعود والتعرّض للضرب وتقبيل أرض ساحة التدريب.
ثم فجأة، قفز «كاي» بخفة إلى الساحة، وهبط بانسيابية جعلت الغبار يتطاير حول قدميه في دوامة صغيرة.
كانت عينيه تتلألآن ببريقٍ حادٍّ، مزيج من الحماس والرغبة الجامحة في القتال.
قال بصوتٍ مليء بالحيوية:
"زعيم، أرشدني في مبارزة!"
رفع «أريس» نظره إليه، وابتسامة خفيفة تزيّن وجهه:
"يبدو أنك نجحت في تشكيل نجم الهالة."
ضحك «كاي» بفخر، وصدره ينتفخ قليلًا:
"هههه، زعيم، لا يمكن إخفاء ذلك عنك!"
شعر أريس بتدفّقٍ غريب في الهواء، تيار من طاقة الحياة بدأ يتراقص حول جسد كاي كوميضٍ خافت، ينبض بالحرارة.
تغيّر إيقاع أنفاس كاي، وارتفع نبضه — لقد نجح حقًا في تشكيل نجم الهالة.
قال أريس بنبرة إعجاب خافتة:
"مبارك. أعتقد أن كيرا أيضًا أكملت العملية؟"
أومأ كاي بسرعة، وقطرات العرق على عنقه تلمع تحت ضوء الشمس.
"نعم، البارحة اخترقنا معًا وشكّلنا نجم الهالة."
رفع كاي سيفه، وانبعثت من نصله ذبذبات خافتة من الطاقة، لكن الهالة التي أحاطت بجسده كانت متقطعة ومضطربة، تشبه لهبًا صغيرًا يتأرجح في مهب الريح.
كان واضحًا أنه ما زال في بدايته.
قال أريس بنبرة هادئة تحمل تعليمًا خفيًا:
"كاي، أنت تحاول تقليد شيء لا تفهم أساسه بعد."
قطّب كاي حاجبيه وهو يحاول موازنة تنفسه:
"ماذا تقصد؟"
أجاب أريس وهو يراقب اضطراب هالته بعيني خبير:
"الهالة ليست شيئًا تراه، بل شيئًا تشعر به.
لا يمكنك السيطرة على ما لا تفهمه. القوة تأتي من الفهم… لا من الجهد الأعمى."
تجمّد كاي لثوانٍ، وكأن كلماته اخترقت أعماقه. ثم أومأ بخفة، وقد بدأ يدرك ما يقصده.
ابتسم بحماس وقال:
"لكنني أردت أن أقاتلك بالسيف والهالة معًا، يا زعيم!"
تنهد أريس بخفة، وبدت على وجهه ابتسامة تجمع بين الملل والتسلية، ثم قال:
"حسنًا، أرني مهارتك في السيف إذًا."
رفع أريس سيفه ببطء، وصوت المعدن وهو يُسحب من غمده أحدث صدىً رقيقًا في الساحة.
وقف بثبات، وقد وضع يده الأخرى خلف ظهره — وقفته كانت أنيقة كلوحة، وهادئة كالماء قبل العاصفة.
كل من يشاهده كان يشعر أنه يرى محاربًا حقيقيًا، لا طالبًا في الأكاديمية.
صوت «مي» دوّى عاليًا:
"المبارزة... تبدأ الآن!"
ارتفعت الريح فجأة، فدوّت صفيرها عبر الساحة، وأثارت ذرات الغبار التي لمعت تحت أشعة الشمس كنجومٍ صغيرة.
في اللحظة نفسها، انطلق الاثنان.
ارتطم السيفان بقوةٍ هائلة، واهتزّ الهواء حولهما.
انبثقت شرارات معدنية مضيئة، وملأت الأرجاء رائحة الحديد الساخن الممزوجة بالعرق والجهد.
كل ضربة كانت تُسمع كصدى رعدٍ خافتٍ يتردد بين جدران الساحة.
تحرّك كاي بسرعةٍ مذهلة، سيفه يلمع كوميض برق، يهاجم بعاطفة متفجرة —
لكن خطواته كانت خشنة، ووزن جسده غير متوازن.
كل مرة يضرب فيها، كانت الأرض تئن تحت قدميه، والغبار يتطاير حوله في دوائر مضطربة.
أما أريس… فكان عكس ذلك تمامًا.
تحركاته كانت ناعمة كالماء، دقيقة كالنصل، صامتة كالظلّ.
لم يكن يقاتل فحسب، كان جسده يتحرك بانسيابية مثالية .
بل و كان يقوم بي تعلم كاي خلال القتال، وسيفه يصحح أخطاء كاي كما لو كان مرآة لحركته.
قال بصوتٍ هادئ وسط صليل الحديد:
"وزن قدمك خاطئ، لا تترك الجانب الأيسر مكشوفًا."
صدّ ضربة أخرى بخفة لا تصدق، وأكمل تعليماته دون أن يفقد إيقاعه:
"تنفّسك يا كاي... اجعله يسير مع السيف، لا قبله ولا بعده.
السيف هو أنفاسك، والهالة هي قلبك."
ارتجفت ذراع كاي تحت الضغط، واهتز قبضته، والشرارات تتطاير مع كل تماس بين السيفين.
الهواء كان يزداد حرارة، وقلوب المتفرجين تخفق بسرعة مع كل حركة.
صرّ كاي على أسنانه، وصرخة خفيفة خرجت منه وهو يهاجم بكل ما يملك.
لكن أريس لم يتحرك من مكانه.
بل انحرف بخطوة جانبية سريعة، لامست أطراف شعره نسمة من الريح،
ثم رفع سيفه بضربة خفيفة توقفت قبل أن تلمس عنق كاي مباشرة.
سكون.
الزمن نفسه بدا وكأنه توقّف.
حتى الغبار في الهواء تجمّد للحظة.
ثم انخفض سيف أريس ببطء، وصوته هادئ كنسمة ليلية:
"أنت تتحسن، كاي… لكن لا تنسَ — السيف ليس قوة فقط، بل وعيٌ وإحساس."
انحنى كاي قليلًا، والعرق يقطر من ذقنه إلى الأرض، أنفاسه ثقيلة، لكن عينيه لا تزالان مشتعلة بالإصرار.
ابتسم وهو يلهث:
"سأصل إلى مستواك يومًا ما، زعيم."
ضحك أريس بخفة، وأعاد سيفه إلى غمده.
تطاير الغبار من حولهما كستارٍ خفيفٍ، يعلن نهاية المشهد —مشهدٍ لن يُنسى أبدًا، محفورٍ في ذاكرة كل من شاهده.